«وتمضي المواكب بالقادمين من كل لون ٍ وكل مجال فمن عصر مينا إلى عصر عمرو ٍ ومن عصر عمرو ٍ لعصر جمال وكل تساءل في لهفة ٍ أين؟ ومن وكيف إذن؟ أمعجزة ً ما لها أنبياء؟ أدورة أرض بغير فضاء؟» كامل الشناوي
منذ بضعة أيام مررت في وسط بيروت إلى جانب ضريح رفيق الحريري، أبطأت قليلاً لأنزل، لكنني لاحظت العوائق الموضوعة، فأكملت طريقي ولم أتمكن من كتم دمعة نزلت على ذكرى ذاك الذي احترق في حياته، واحترق في مماته، وما زالت روحه تحترق حزناً على هذا البلد الذي ظنّ أنّه بعناده وصبره، كان قادراً على الولوج به وبشعبه إلى برّ الأمان، في منطقة ما زالت الأعاصير تضرب بها. ففي مثل هذه الأيام في رمضان، كنا نجتمع حوله على موائد الإفطار، لنسمع منه خطابات الأمل والتفاؤل والتشجيع على المزيد من الجهد والعمل، لأنّ «البلد ماشي والشغل ماشي والحكي ماشي...». كانت أيام مفعمة بالتفاؤل، وكان كثيرون منا يظنّ أنّ صمام الأمان هو رفيق الحريري، فوجوده كان الضمانة بأنّه كان سيجترح حلاً ما لكل شيء.
سقى الله تلك الأيام، فذاك الرجل لم يكن يحمل عقدة دونية بالرغم من تاريخه الخاص، وما حماه من ذلك هو قناعته بأنّ الحقد على الظروف الشخصية يعمي القلب ويمنع الإنسان من الإنجاز.
لأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فإننا اليوم في عهد لا يحمل إلّا الحقد على نجاح الغير، ومزيج معروف من عقدة نقص أظهرت نفسها في متلازمة جنون العظمة، وهي حسب العالم النفساني أدلر، فإنّ كل إحساس زائف بالعظمة يحمل في طياته إحساساً دفيناً بالدونية. ومن مظاهر الدونية هي الإحساس بضآلة الحجم والموقع في التاريخ، ومن هنا يلجأ هؤلاء إلى، إما تزوير التاريخ، أو الذهاب إلى عرض انتقائي لبعض أحداثه لتأكيد الذات، أو الذهاب إلى تشويه تاريخ الآخرين لمجرد تغطية الفشل الذاتي بكونه نتيجة لفشل آخرين. وفي مراجعة للانتقائية التاريخية في عالمنا العربي، تلك القصيدة المبدعة للشاعر كامل الشناوي، الذي نظّمها لمدح جمال عبد الناصر، فاختصر تاريخ مصر العظيم والملون بالفراعنة واليونانيين والمسيحية والإسلام بثلاثة أسماء.
ما لنا ولكل ذلك الكلام الآن؟ فالموضوع هو الإنجاز «التاريخي» للعهد بإعلان الخطة الاقتصادية، والادّعاء بأنّه سابقة في تاريخ العهود والحكومات المتعاقبة، منذ الاستقلال، وتحقّق وعد ولي العهد بأنّه سيُنسي بإنجازاته اللبنانيين كل رجال الدولة، بالأخصّ الموارنة منهم، ليصبح هو البطل الوحيد.
في الواقع، فالبحر يكذب الغطاس، والعبرة هي ليست بما يُكتب على الورق أو يعلنه رئيس حكومة في خطوة «تاريخية» تختصر التاريخ بوجوده في غفلة منه في موقع المسؤولية. يعني، وبغض النظر عن الرضية السياسية، فإننا بانتظار النتائج قبل تطويب البطل وإعلانه قديساً.
لكن، وبالعودة إلى الخطة التي أُعلنت، فمن الواضح أنّ معظمها تكرّر في كل الخطط التي طُرحت، وأغفل الحديث عنها، من خطط مؤتمري باريس إلى سيدر، وكلها تضمنت مسارات إصلاحية تمّ إجهاضها بشكل مأسوي على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومن أجهضها هم بالذات من هم في سدّة الحكم اليوم بمختلف أطيافهم، وبتنوع أحجام مسؤولياتهم. لكن من الضروري التعليق على ما يلي. فما أصبح اليوم مثل أسطوانة مكسورة، هو تكرار ببغائي، لم يعلم ولا يعلم حقائق الأمور. لكن اكتشفنا فجأة أنّ المخطط الاقتصادي المالي يستند بأكمله إلى السياسة ذاتها التي بالغ العهد ومؤيدوه بهجائها وتحميلها وزر الفشل الذي وصلت دولتنا إليه. يعني سيدر المشابه لباريس واحد واثنين وثلاثة، و»الخضوع» لإملاءات صندوق النقد الدولي، أي المزيد من الديون على لبنان، وضخ المال في ثقب سيمنع حتماً أي استفادة من المساعدات مهما بلغ حجمها، وإن تمكنت من تخدير الوضع لفترة من الزمن.
الواقع هو أنّ ردات الفعل على الخطة حتى اليوم من قِبل العديد من المراجع ليست مشجعة، وحتى أنّ البعض قارب وصفها بالخديعة الجديدة. فالشق الداخلي المتعلق بالهندسات بين المصرف المركزي والمصارف بشكل عام، رفضتها جمعية المصارف أولاً، وهي بالأساس تبقي كمية السيولة في البلد على حالها، ولن تتمكن من ضخ مال جديد في الاقتصاد لتحريك عجلته. كما أنّ الإجراءات المتعلقة بالودائع لن تسمح بأن يذهب أحد إلى المبادرة بمشاريع اقتصادية جديدة، او إنعاش القديمة، طالما أنّه لا يعرف إن كان سيتمكن من تحريك رأسماله، وتأمين ما يحتاجه من العملة الصعبة لتسيير أعماله. وبصراحة، فمن المنطقي اليوم أنّه من سيتمكن من إنقاذ أي قرش من ماله من المصارف، وتحت أي حجة، سيلجأ إما إلى تخزينه في البيت، أو تهجيره إلى أي مكان في الخارج.
لكن ما تميّزت به الخطة اليوم أتى تحت واقع الانهيار المالي، ولا أظن من بوادر ردّات الفعل بأنّ هذه الإجراءات ستؤدي إلى وقف الانهيار. ووقف الانهيار يستند اليوم إلى جملة واحدة هي «من سيضخ المال؟». ومن هو قادر اليوم على ضخ المال أصبح نادراً بظل التدهور الاقتصادي العالمي المستمر لأشهر وربما سنوات، ويبقى صندوق النقد الدولي بشروطه الموجعة، السياسية منها والاجتماعية. ومن سيجرؤ على تحمّل تبعاتها الكثيرة على شعبيات زعامات بنت وجوده وأبّدته على حساب توزيع مغانم المال العام؟
والمعضلة الثانية، هي بالوضع السياسي والأمني، الذي وضعنا فيه وجود «حزب الله» في لبنان، وتداعيات مغامراته العسكرية في خدمة مشروع ولاية الفقيه، وما تسبّبه من ضمور في فرص لبنان الاقتصادية بسبب عدم استقرار الوضع الأمني وإمكانية اندلاع الحروب من دون سابق إنذار لحساب إيران. وحتى ولو فرضنا انّ دول الخليج العربي قادرة أو راغبة بالمساعدة، فمن غير المنطقي ان تقوم بذلك بظل العداء والشتائم المستمرة المغطاة رسمياً بالتجاهل. إذا، فإنّ الأمور لا تزال على ما كانت، ولم يبق إلّا العويل على «استرجاع الأموال المنهوبة» كبديل لوهب المال غير الممكن.
وهنا تبرز معضلة جديدة، فكما التنقيب عن النفط يحتاج إلى جدوى اقتصادية تسمح بالمغامرة وتبديد المال في سبيل احتمال مفيد، فحتى الآن لم نعرف ما هو تعريف المال المنهوب قانونياً، وبالأخصّ في لبنان، وكم من المال هو منهوب، وكم من المنهوب يمكن استعادته، وكم من الوقت تحتاج الأجهزة القضائية «المستقلة» للقيام بواجباتها لتبيان ما هو شرعي وما هو منهوب، وهل ستطال الأمور من هم في السلطة حالياً؟
بانتظار كل ذلك، فلا شك أنّ من يبني اليوم مجده على القضاء على الحريرية، يحتاج لمن هو مثل رفيق الحريري لينقذ عهده ويعيد الأمل للناس.